المسيحيين السوريين بين محنة المتشددين ووعود الجولاني.. قبل عشر سنوات، كان المتطرفون يرددون في شوارع سوريا: “العلوي على التابوت و المسيحي على بيروت”. ومع مقاومة المسيحيين للتهجير، تغيرت العبارة لتصبح “الاثنان على التابوت”. هذا ما سمعته من الفارين من جحيم سوريا إلى مدينة زحلة اللبنانية على الحدود السورية، خلال زيارتي هناك في عام 2014، في ظل وجود داعش وجبهة النصرة وهيئة تحرير الشام. كان المسيحيون في سوريا يعيشون في حالة من الرعب، ولم يكن أمامهم سوى خيارين: الهروب أو دعم النظام للحصول على الحماية. كانت الأوضاع مشوبة بالقلق، حيث لم يكن أحد يعرف كيف ستتطور الأمور بعد انتقال الحكم من قبضة الاستبداد إلى سيطرة الجماعات الجهادية. ورغم محاولات إظهار التسامح تجاه المختلفين دينيًا، إلا أن الأمور لا تزال غامضة.
الكاتبة حنان فكري عن المسيحيين السوريين
من خلال نظرة سريعة على المشهد، يمكننا استنتاج مجموعة من المخاوف التي تواجه الشعب السوري، لكننا سنركز على واحدة منها تتعلق بمدى قدرة الأطراف الفاعلة، في ظل التعقيدات السياسية والأمنية، على تحقيق التسامح الديني مع الأقليات المسيحية التي كانت تدعم بشار الأسد.
على مر السنوات، تحولت سوريا من وطن يعج بالحياة والتنوع الثقافي والديني إلى ساحة حرب مفتوحة، حيث تجاوزت تداعياتها الانهيارات السياسية، تاركة جروحًا عميقة في النسيج الاجتماعي والديني. ومن أبرز الشواهد على ذلك هو اختطاف مطراني حلب، بولس يازجي و يوحنا إبراهيم، وهو حادث لا يزال يؤثر على المسيحيين السوريين رغم مرور 11 عامًا.
مقاومة المسيحيين للتهجير ومشاعر القلق
عانى المسيحيين من مشاعر القلق والخوف نتيجة تصاعد نفوذ تنظيم داعش في تلك الفترة، مما دفع العديد منهم للانضمام إلى نظام بشار الأسد الذي يمثل “الأقلية الشيعية”، هربًا من هيمنة الأغلبية السنية. ومع انهيار سوريا في حروب أهلية عام 2012، بذل بشار وأتباعه جهودًا كبيرة لتعميق الانقسامات الطائفية. في ظل هذا المناخ الطائفي، سقط نظام الأسد، مما زاد من تعقيد الوضع، وأدى إلى شعور المسيحيين في سوريا بقلق شديد من احتمال تعرضهم للانتقام بسبب ولائهم السابق، بالإضافة إلى التاريخ الطائفي الذي يربطهم بالجهات التي تسيطر على الأمور حاليًا.
شغل محمد البشير مؤخرًا منصب رئيس الوزراء في ما يُعرف بـ«حكومة الإنقاذ» التابعة لهيئة تحرير الشام في محافظة إدلب.لمن لا يعلم، فقد قامت الولايات المتحدة بتصنيف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية أجنبية منذ عام 2018. تأسست الجماعة كفرع لتنظيم القاعدة، ورغم انفصالها عن التنظيم، إلا أنها لا تزال تتبنى أيديولوجية القاعدة السلفية الجهادية والقومية. كما تم تصنيف جبهة النصرة، السلف لهيئة تحرير الشام، بنفس الطريقة، والتي أسسها أبومحمد الجولاني، الذي أصبح اليوم زعيم هيئة تحرير الشام.
ظهر البشير في مقطع فيديو نشرته وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) الأسبوع الماضي، برفقة زعيم هيئة تحرير الشام، أبومحمد الجولاني، الذي كان سابقًا زعيم جبهة النصرة، حيث تم مناقشة ترتيبات نقل السلطة للحكومة الجديدة في سوريا. وهكذا، تتضح الصورة تدريجيًا حول من يتبع من، ومن يملك زمام الأمور حاليًا في سوريا.
من هو الجولاني
لكي نفهم من هو الجولاني، يجب أن نتتبع تاريخه. فقد بدأ كمقاتل متشدد في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق، حيث قضى أكثر من ثماني سنوات شارك خلالها في أعمال عنف مروعة استهدفت الأبرياء وزرعت الرعب في قلوب المدنيين. في عام 2011، عاد الجولاني إلى سوريا كمبعوث لمؤسس التنظيم الإرهابي أبو بكر البغدادي، ليكون صوتًا لرؤية متطرفة تهدف إلى إقامة “الخلافة” بالقوة والقهر.
على الرغم من محاولاته الأخيرة التي تدل على التسامح وقبول الأقليات، إلا أن تاريخه الدموي يثير الشكوك حول كونها استراتيجية مضللة تهدف للوصول إلى الحكم. كيف يمكن الوثوق بشخص قضى سنوات في صفوف تنظيم متطرف يُعرف بقتل من يختلفون عنه فكريًا ودينيًا، ويستخدم الإرهاب كوسيلة لتحقيق أهدافه؟ إن الأقليات، بما في ذلك المسلمون الشيعة، يشعرون بالخوف مما يحدث، ويخشون أن تكون هذه المحاولات مجرد ستار يخفي الحقيقة المظلمة. فهل يمكن للجولاني، الذي يقود هيئة تحرير الشام، أن يتخلى عن منهجية القمع وإقصاء الآخرين؟ التاريخ لا ينسى، وقائمة الضحايا لا يمكن محوها بتصريحات تبدو متسامحة، والناس يخشون الانتقال من سلطة مستبدة مثل “حكم الأسد” إلى سلطة أكثر استبدادًا تتمثل في “حكم الجماعات المتطرفة”.
“التنوع هو قوتنا وليس ضعفنا”، هذا ما أعلنه الجولاني في مرسوم أصدره بعد السيطرة على حلب في طريقه إلى دمشق. وقد تفاجأ المراقبون بالأوامر التي صدرت لحماية الأقليات الدينية. بعد ذلك، توجه المقاتلون إلى منازل الأفراد ذوي المعتقدات المختلفة في حلب، مؤكدين على التسامح. وفي مقاطع فيديو متداولة على الإنترنت، ظهرت شجرة عيد الميلاد في سوق تقع في منطقة ذات أغلبية مسيحية في المدينة بعد استيلاء المتمردين عليها. لكن يبقى التساؤل: إلى أي مدى يمكن تصديق هذه التطمينات من شخص مثل مؤسس جبهة النصرة؟ الناس يشعرون بالخوف من المستقبل الذي ينتظرهم تحت حكم حكومة تضم مؤسسين وأفرادًا خرجوا من تنظيم القاعدة. إنهم يقرأون التاريخ ويتعلمون من تجاربه، وما يحدث الآن في سوريا يذكر بما حدث في العراق عام 2006 على يد تنظيم داعش، الذي أقنع المسلمين السنة بأنهم دخلوا الموصل لحمايتهم من ظلم النظام الشيعي، ليصبح مصير الجميع خرابًا.
بينما يراقب المجتمع الدولي الوضع عن كثب، منتظرًا مدى احترام الحكومة الجديدة للحرية الدينية، يختنق المسيحيين السوريين بانتظار تنفيذ وعود الجولاني ودعمه لحقوقهم وحقوق الآخرين. والسؤال الذي يبقى مطروحًا هو: هل يمكن لمن تلطخت يداه بدماء الأبرياء أن يقدم نفسه كصانع سلام؟