أخبار عاجلة

إعادة تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. مفاهيم مؤسسة وسردية تاريخية

إعادة تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. مفاهيم مؤسسة وسردية تاريخية
إعادة تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. مفاهيم مؤسسة وسردية تاريخية

الجزء الأول

أثارت تصريحات بعض الناشطين المغاربة في المجال الحقوقي جدلا واسعا وموجة من الامتعاض والرفض داخل الأوساط المغربية، لاسيما أنها تضمنت بعض المفردات والتعابير التي عادة ما تنهل من القاموس المناوئ للوحدة الترابية، مفردات تتقاطع وتتشابه إلى حد التطابق مع السردية الانفصالية، ما يؤشر على أن هذا الإطار المؤسساتي (الجمعية المغربية لحقوق الإنسان) بات ينهل تصوراته ومرجعياته الفكرية والنضالية من التوجه الأيديولوجي نفسه لبعض التيارات المؤثرة داخل الجمعية، عوض الاعتماد على المرجعية الحقوقية الكونية، خاصة في ظل التحولات التي وقعت بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي.

وفي معرض التفاعل مع الخرجة الإعلامية لرئيس الجمعية، وبعيدا عن منطق السباب وتبادل الشتائم والنعوت القدحية، يبدو أن النقاش الداخلي حول السردية الانفصالية بات أمرا ملحا، خاصة مع بعض المكونات والتيارات ذات النزعة اليسارية والحقوقية؛ نقاش على الأرجح قد يساعد على إعادة قراءة تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة الانفصال، وفق منطق حجاجي يستحضر كافة المرجعيات الدولية القانونية والحقوقية، دون القفز -وبدون خلفيات ايديولوجية وأحكام جاهزة- على متطلبات الدولة الوطنية والمحاذير المرتبطة بالمشاريع الغربية المعلنة الرامية إلى التجزئة والتقسيم.

وبالعودة إلى السردية الانفصالية، ومن منطلق القانون الدولي وبالاعتماد على المعطيات السوسيولوجية والتاريخية والجغرافيا السياسية، تحاول هذه الورقة (وهي مستوحاة من مقالتي العلمية المنشورة بالعدد الأول من مجلة المغرب الكبير للدراسات الجيوسياسية والدستورية حول المفاهيم المؤسسة لأطروحة الانفصال) دراسة الخطاب الانفصالي وقاموسه الدعائي، من خلال تفكيك وتحليل مجموعة من المفاهيم المتداولة المليئة بالمغالطات بشأن الصراع حول الصحراء، إذ صار الجهاز المفاهيمي أو القاموس الدلالي المتداول خاضعا وبشكل تعسفي للدعاية الإعلامية لخصوم المغرب.

إن رهان إعادة تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة الانفصال بات رهانا داخليا وبالأهمية نفسها التي يدار بها ملف النزاع خارجيا على مستوى الترافع، لاسيما أن تلك المفاهيم يتم توظيفها واستعمالها على نطاق واسع حتى صارت بمثابة “يقينيات” وحقائق عند معتنقي أطروحة الانفصال، بل وحتى بالنسبة لمعتنقي الأطروحة الحقوقية بالداخل.

ومن بين المغالطات على سبيل المثال الإشارة في كل مناسبة من طرف خصوم المغرب ومن يدور في فلكهم إلى “إدراج الملف ضمن اللجنة الرابعة، وذلك بغية الطعن والتشكيك في سيادة المملكة على الأقاليم الجنوبية، والإيحاء ومحاولة خلق اعتقاد بين إدراج الملف ضمن اللجنة و”اعتبار المغرب محتلا”، وهو ربط مخالف للحقائق التاريخية.

على النقيض من ذلك فالسردية التاريخية تؤكد وجود مجموعة من الاتفاقيات الدولية التي لا تستثني الصحراء من مجال تطبيقها بين المغرب وبعض الدول، كما أن بعضها حرص على تحميل المغرب المسؤولية عن أي استهداف لهذه الدول من الصحراء؛ مثلا اتفاقيتان بين المغرب وأمريكا سنة 1786 و1836، واتفاقية بين المغرب وبريطانيا 1791، واتفاقيتان مع إسبانيا سنتي 1799 و1861؛ وذلك قبل الاستعمار الإسباني للصحراء سنة 1884، بالإضافة إلى اتفاقية للا مغنية سنة 1845، واتفاقيات أخرى كلها كانت تعتبر المملكة المسؤولة وصاحبة السيادة الإدارية على المناطق الصحراوية.

كما تعتمد الأطروحة الانفصالية على هذه المغالطة المرتبطة بإدراج ملف النزاع ضمن اللجنة الرابعة الخاصة بتصفية الاستعمار بهدف نشر وتمرير مجموعة من المفاهيم الخاطئة، ومحاولة تغليفها وصبغها بمبادئ القانون الدولي.

صحيح أن مشكلة الصحراء مدرجة ضمن اللجنة الرابعة الخاصة بتصفية الاستعمار، لكن الأسئلة المغيبة والتي يراد تغيبها والقفز عليها هي التي تتعلق بمن أدرجها؟ ولماذا أدرجت في الأمم المتحدة؟ ومتى تم إدراجها؟ من الناحية التاريخية فالمغرب هو الذي أدرج سنة 1963 هذه القضية ضمن اللجنة الرابعة، وذلك بهدف إخراج المستعمر الإسباني من الصحراء، لكن عندما استرجعت المملكة الصحراء سنة 1975 بواسطة المسيرة الخضراء لم تستطع أن تخرج هذا الملف من اللجنة الرابعة بسبب عدة اعتبارات إقليمية ودولية، خاصة عندما دخلت الجزائر على الخط وأسست البوليساريو وعرقلة إخراج الملف من خلال توظيف تعقيدات وتوازنات الحرب الباردة ليظل الملف إلى اليوم مدرجا ضمن اللجنة الرابعة.

أما من الناحية القانونية، وارتباطا بميثاق الأمم المتحدة، فإدراج ملف الصحراء ضمن اللجنة الرابعة يتعارض ويخالف مقتضيات هذا الميثاق، فبالنظر إلى المادة (12)، التي تؤكد أنه “عندما يباشر مجلس الأمن، بصدد نزاع أو موقف ما، الوظائف التي رسمت في الميثاق، فليس للجمعية العامة أن تقدم أي توصية بشأن هذا النزاع أو الموقف إلا إذا طلب ذلك منها مجلس الأمن”.

وأخذا بعين الاعتبار أن مشكلة الصحراء بين يدي مجلس الأمن كنزاع سياسي/إقليمي وفق البند السادس فإن استمرار إدراج هذا الملف ضمن اللجنة الرابعة يطرح عدة تساؤلات حول خلفيات هذا الخرق السافر لأهم مواد الميثاق الأممي.

المفاهيم السوسيولوجية والجغرافية والتاريخية

يعتبر النزاع حول الصحراء من بين أطول النزاعات الإقليمية والدولية، وكنتيجة لهذا الصراع الذي أخذ أبعادا إعلامية ادعائية وعسكرية ودبلوماسية فإن القاموس التداولي المرتبط به لم يسلم بدوره من تحريف ومغالطات على مستوى المفاهيم المتداولة والأحداث التاريخية والحقائق الميدانية.

إذ بالموازاة مع الحرب الدبلوماسية والاحتكاكات الميدانية هناك حرب أخرى جرت وتجري بأدوات إعلامية ادعائية، وهي الحرب الناعمة التي يتم من خلالها استدعاء وتوظيف بعض الأحداث والمعطيات التاريخية والمفاهيم بطريقة مغلوطة في عملية الحشد والاستقطاب وتوسيع دائرة المناصرين لأطروحة الانفصال.

أ-المفاهيم السوسيولوجية والجغرافية

توظف في الحرب الدعائية مجموعة من المفاهيم ذات الطبيعة السوسيولوجية والجغرافية والتاريخية، إذ بفضل الاستعمال المكثف والممنهج لبعض المفاهيم صارت تحظى بنوع من “الصدقية ” و”الحجية” رغم الانحرافات والمغالطات وعدم الدقة والتحريف الذي طالها.

إن مسألة التدقيق ومراجعة بعض المفاهيم والأحداث المرتبطة بالصراع حول الصحراء المغربية هي غاية في التعقيد بفعل الصعوبات التي تجعل رهان تدقيق وتصحيح بعض المفاهيم قد يجعل الباحث يقع عن غير قصد في العمل الدعائي/التحريضي، أو قد يصنف في هذه الخانة من طرف البعض بحسب التأويلات التي قد تخدم هذا الطرف أو ذاك.

1-الشعب الصحراوي

في خضم الصراع حول الصحراء برز مفهوم “الشعب الصحراوي” كمفهوم محوري ضمن مكونات وسرديات النزاع، إذ حاولت الآلة الدعائية للنظام العسكري الجزائري ومن يدور في فلكها أن تخلق “تمثلا” يختزل الصراع بين “شعب مضطهد” و”نطام توسعي”. وبالاستناد إلى المصادر التاريخية فإن مصطلح “الشعب الصحراوي” يعتبر مصطلحا غير دقيق، وهو وليد ظرفية سياسية وسياقات جيوسياسية ومخالف للتاريخ وحقائق الجغرافية.

إن وجود شعب من الناحية السوسيولوجية والجغرافية يفترض وجود “دولة” بالمفهوم القانوني، وما يستتبع ذلك من ضرورة وجود روابط قانونية وثقافية وسياسية تجمع بين هذه المجموعة البشرية التي تسمى عادة “شعبا”.

إن الحديث عن المجموعة البشرية يستدعي من الناحية المنهجية التمييز بين مفهومي الشعب والأمة؛ الشعب يفيد بوجود مجموعة من الناس يقطنون إقليما معينا، ويخضعون لنظام سياسي معين. وقد تكون الجماعة متجانسة أو غير متجانسة من الناحية الاجتماعية والثقافية.

أما الأمة فتعني وجود مجموعة بشرية على أرض معينة، ترتبط بمصالح وأهداف وغايات مشتركة، وتستند إلى مقومات واحدة من حيث الأصل أو اللغة أو الدين أو التاريخ.

ولا يشترط في شعب الدولة أن يكون أمة واحدة، فقد يكون جزءا من أمة. وقد يكون شعب الدولة مكونا من عدة أمم، أو قد يكون أمة واحدة.

وبالتالي فإن مفهوم “الشعب الصحراوي” من الناحية التاريخية غير موثق. ولم تسجل كافة المصادر ارتباط هذا المفهوم بالمكون الصحراوي، إذ ارتبط بمجموعة من القبائل الممتدة على كافة التراب المغاربي، في كل من المغرب وموريتانيا وليبيا ومصر والجزائر.

كما أن مصطلح “الشعب الصحراوي” وفق الأبحاث والدراسات التاريخية التي ركزت على بنية المجتمعات المتحركة (الرحل ونصف الرحل) أو بتعبير عبد الكريم مدون “مجتمعات الرحل”، يعتبر مخالفا للموروث الثقافي والسوسيولوجي، لاسيما أن القبائل التي استوطنت منطقة الصحراء كانت تعتبر جزءا من المكون الهوياتي للدولة التي تمتد إلى المناطق التي تدخل في نطاق سيادتها.

2-الصحراء الغربية

تضم منطقة الصحراء الغربية الساقية الحمراء ووادي الذهب، ويقعان من الناحية الجغرافية جنوبي المملكة المغربية، وهي منطقة شاسعة تقع شمال غربي إفريقيا، ومساحتها حوالي 266 ألف كيلومتر مربع. ويدير المغرب نحو 80 في المائة من هاته المساحة. وارتبطت تاريخيا قبائل منطقة الصحراء الغربية بالسيادة المغربية بفعل روابط البيعة التي كانت تجمع بين سلاطين المغرب وشيوخ القبائل الصحراوية. وينقسم الإقليم إلى منطقتين رئيسيتين، هما:

أ ـ منطقة الساقية الحمراء في الشمال وعاصمتها العيون بمساحة تقدر بـ 82000 كلم مربع.

ب ـ منطقة وادي الذهب في الجنوب وعاصمتها الداخلة بمساحة تقدر بـ 184000 كلم مربع.

وفي سياق محاولة المغرب استرجاع الصحراء من إسبانيا تم إدراج الصحراء الغربية سنة 1963 كمنطقة متنازع حولها، وتم تصنيفها في إطار المناطق غير الخاضعة للحكم الذاتي. وبعد خروج إسبانيا وبروز منظمة البوليساريو واحتضانها من طرف نظام القذافي والهواري بومدين تم إخراج مفهوم “الصحراء الغربية” من نطاقه الجغرافي وإعطاؤه حمولة سياسية، تتجاوز الأبعاد التاريخية والامتدادات الجغرافية التي ساهمت في تشكل هذا المفهوم.

ويحاول خصوم المغرب توظيف مصطلح “إقليم الصحراء الغربية” باعتباره إقليما غير خاضع للحكم الذاتي وفق مقررات الأمم المتحدة، وذلك من أجل تحقيق ثلاثة أهداف أساسية:

إنكار السيادة المغربية على منطقة الصحراء الغربية، على اعتبار أن الإحالة على “الغربية” باعتبارها توصيفا جغرافيا عوض “المغربية” غايته محاولة خلق التضارب والتضاد بين المصطلحين؛ وهو الخطأ الذي وقع فيه المغرب نظرا لتعاطيه بحساسية مفرطة مع هذا المفهوم الجغرافي.

محاولة خلق الترابط بين البوليساريو وهذا الفضاء الجغرافي، وجعل الصحراء الغربية في “تمثلات الصحراويين ” فضاء صحراويا خالصا، يعكس الروابط الهوياتية، وهو تمثل خاطئ يقفز على التاريخ والجغرافية اللذين يؤكدان أن المكون القبلي أو “مجتمعات الرحل” كما توصف لا ترتبط بمجال محدد ولا تعترف بالحدود الجغرافية.

وعلى المستوى الإعلامي هناك حضور قوي لمصطلح “الصحراء الغربية” في مختلف القصاصات الإخبارية والمقالات والكتابات على مستوى المنابر الدولية، بل إن هذا المصطلح يعتبر من كلمات المفتاح الرئيسية (بجميع اللغات)، خاصة على مستوى محرك البحث “غوغل”. بل أصبح هذا المفهوم الجغرافي يقترن بأطروحة الانفصال، على اعتبار أنه نادرا ما يتم استعمال وتوظيف هذا المفهوم من لدن الباحثين والإعلاميين المغاربة، مقابل التوظيف المكثف لهذا المصطلح من طرف من يتبنى الأطروحة الانفصالية.

من جانب آخر فالملاحظ أن المغرب كان ومازال يتعامل بحساسية شديدة مع مصطلح “الصحراء الغربية”، رغم أنه مفهوم جغرافي، فبسبب التوظيف المكثف لهذا المصطلح من طرف خصوم المملكة أخذ أبعادا سياسية، لاسيما أن توظيف المغرب مصطلح “المغربية” كمقابل لمصطلح “الغربية” أدى إلى خلق نوع من التقابل الذي قد لا يكون في صالح المغرب، بسبب أن هذا المفهوم (الغربية) يعتبر التوصيف الجغرافي للمنطقة والتسمية المرجعية المعتمدة ضمن قرارات مجلس الأمن وتقارير الأمين العام.

3-المكون القبلي والرموز

تتعدد وتختلف المكونات القبلية في منطقة الصحراء. وطوال مدة الصراع حاولت الأطروحة الموالية للانفصال أن تستغل هذا التنوع والاختلاف لإضفاء نوع من الشرعية والغطاء القبلي على رهان الانفصال، وذلك من خلال توظيف بعض القبائل والرموز بطريقة غير دقيقة و”تعسفية” -في بعض الأحيان- بغية تحريف الوقائع التاريخية وقلب الاحداث، والتشويه والطعن في انتماء بعض القبائل إلى منطقة الصحراء.

إذ جرى في هذا السياق تصوير القبائل الوحدوية على أنها “قبائل غير صحراوية”، أو دخيلة من حيث الهوية والثقافة والامتداد القبلي، كما تم الطعن في هوية وانتماء بعض القبائل إلى منطقة الصحراء. وبالموازاة مع ذلك تم الترويج لبعض المغالطات والأحداث غير الدقيقة، من خلال تشويه الحقائق وبتر الوقائع والأحداث، ومحاولة وضع بعض الشخصيات الصحراوية -مثل “بصيري محمد سيدي براهيم بصيري” والوالي مصطفى السيد الذي توفي في ظروف غامضة- في خانة رموز أو معتنقي أطروحة الانفصال، وذلك بهدف استثمار واستغلال رصيده التاريخي والنضالي ضد المستعمر الإسباني لخلق “ذاكرة وطنية مفقودة” وتوظيفها في حرب الدعاية والبروباغندا ضد المغرب.

فرغم أن محمد بصيري من مواليد أزيلال وسليل “الزاوية البصرية” إلا أن الأطروحة الانفصالية حاولت أن تجعل من الانتماء إلى الصحراء مقدمة لخلق الاعتقاد بأن الأصول الصحراوية لهذه الشخصية تبرر وتشرعن الميولات الانفصالية، وإن كانت غير صحيحة، لاسيما أنه أسس منظمة الطليعية لتحرير الصحراء في إطار محاكاة “تجربة جيش التحرير”، ومحاولة تشكيل بدائل ميدانية جديدة لمواجهة إسبانيا، خاصة بعد القمع الذي تعرض له جيش التحرير خلال عملية أوكيفيون.

وتعتبر المنظمة الطليعية من أهم التنظيمات السرية التي تشكلت في منطقة الصحراء للمطالبة بجلاء الاحتلال الإسباني، حيث نظمت عدة مظاهرات احتجاجية بداية السبعينيات، بل وصل الأمر إلى القيام باعتصام بالخيام تصدت له السلطات الإسبانية بالقوة والقمع.

والحقيقة هي أن محمد بصيري سافر لمتابعة دراسته الجامعية بكل من سوريا ومصر بعد إتمام مراحلها الأولى بالمغرب، وعند رجوعه إلى الدار البيضاء سنة 1966 أصدر مجلة الشهاب أو الشموع؛ صحيح أنه تأثر بأفكار تلك المرحلة، أي القومية العربية، لكنه ظل مغربيا وحدويا بخصوص قضية الصحراء المغربية.

وانطلاقا من عدة حقائق تاريخية وشهادات لمن عايش تلك الحقبة فإن محمد بصيري لم يكن انفصاليا، بل كان مناضلا وحدويا، وانخرط مثل العديد من الشباب في عدة تنظيمات وتكتلات وحدوية لتحرير الصحراء الغربية المغربية من المستعمر الإسباني.

إن تزوير الأحداث وقلب الحقائق في ما يتعلق بالمكونات والرموز الصحراوية يعتبر جزءا من الإستراتيجية الدعائية التي حاولت من خلالها جبهة البوليساريو إدارة “الحرب الناعمة” ضد المغرب.

ب- المفاهيم والحقائق التاريخية

تعمل الأطروحة الانفصالية على الترويج لمجموعة من المفاهيم ذات الحمولة التاريخية بصورة تكاد تكون متناقضة ومخالفة للتاريخ وللواقع، إذ يجري توظيف مجموعة من المفاهيم الجاهزة والخاطئة التي صارت بمثابة سرديات، مثل “الاحتلال” و”المستعمرة الأخيرة في إفريقيا”، و”وضعية الملف ضمن لجنة تصفية الاستعمار”، و”الجمهورية الصحراوية” و”المناطق العازلة” و”اتفاقية مدريد”، إذ توظف هذه المفاهيم بشكل مكثف لإضفاء نوع من المصداقية والشرعية على الطرح الانفصالي، مع أن التاريخ يؤكد عكس ذلك. وتبعا للحقيقة التاريخية فالمغرب لم يوظف بشكل جيد تلك الحقائق في ترافعه على وحدته الترابية ودحض أطروحة الانفصال.

أولا، المغرب و”اللجنة الرابعة”

إن إدراج ملف الصحراء ضمن اللجنة الرابعة داخل الأمم المتحدة، وهي لجنة مختصة في تصفية الاستعمار، يعتبر من الناحية الواقعية أمرا ثابتا ولا يمكن إنكاره، لكن مقاربته من الناحية التاريخية يحتاج إلى تدقيق وتوضيح، لاسيما أن الآلة الإعلامية والدعائية التابعة للجزائر والبوليساريو ومعتنقي الطرح الانفصالي بشكل عام توظف هذا المعطى بنوع من الاختزال والتسطيح.

يدافع الانفصاليون عن أطروحتهم من خلال تكرار سردية أن “ملف الصحراء مدرج ضمن لجنة تصفية الاستعمار”، وبطريقة توحي وتربط بين هذا “المعطى” للطعن والتشكيك في سيادة المغرب على صحرائه. لكن يتناسى ويتعمد هؤلاء بشكل مقصود “عدم تحديد الجهة” التي وضعت الملف ضمن اللجنة الرابعة، وتوقيت وضعه، وسياقات إدراجه.

أسئلة يجري القفز عليها بغية قلب الحقائق ونشر المغالطات، وإن كان المسار التاريخي وسياقات إدراج الملف لا تخدم أطروحة الانفصال.

كما هو معلوم فالمغرب خضع للاحتلال الفرنسي والإسباني، وتبعا لذلك قسمت المملكة إلى ثلاث مناطق نفوذ: دولي في طنجة، إسباني في الريف والساقية الحمراء ووادي الذهب، وفرنسي في باقي المناطق. غير أن الاستعمار الإسباني امتد ما يقارب 91 سنة (1884-1975)، إذ شكلت ولعبت معارك جيش التحرير في مختلف مناطق الصحراء، والمسيرة الخضراء، دورا أساسيا في حسم معادلة الصراع.

إن استدعاء كرونولوجيا الصراع المغربي الإسباني حول الصحراء يساعد على فهم الأحداث والإجابة عن بعض التساؤلات، خاصة في ما يتعلق بسياقات إدراج الملف ضمن اللجنة الرابعة، وهنا يمكن سرد بعض المحطات المهمة:

-1957 تحرير قوات جيش التحرير السمارة وبئر انزران وأوسرد ووصولها إلى ادرارة بالشمال الموريتاني.

-1958 توغل جيش التحرير المغربي في الصحراء. وخلال فبراير من السنة نفسها بداية عملية المكنسة وهي عملية أطلقتها فرنسا وإسبانيا لهجوم مشترك لتصفية جيش التحرير.

-1961 إعلان الصحراء الغربية محافظة إسبانية.

-1963 إدخال الملف إلى اللجنة الرابعة الخاصة بتصفية الاستعمار من طرف المغرب.

-1965 اتخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها (2072) لمطالبة إسبانيا بإنهاء استعمارها للصحراء.

وبالتالي فالادعاء بأن ملف الصحراء مدرج ضمن اللجنة الرابعة للتشكيك في سيادة المغرب على صحرائه هو ادعاء غير مؤسس ومجانب للصواب وبمثابة تحريف للوقائع التاريخية، لاسيما أن إدراج هذا الملف كان وفق سياقات تاريخية لم يكن فيها أصلا تنظيم جبهة البوليساريو موجودا أو “قائم الذات”.

ثانيا، البوليساريو حركة تحرر أم حركة انفصالية

عدة أسئلة طرحت ومازالت تطرح من طرف الباحثين والمهتمين بالنزاع حول الصحراء، خاصة المتعلقة بطبيعة تنظيم جبهة البوليساريو، وأهدافه وسياقات تأسيسه: هل البوليساريو أسست بغرض الانفصال عن المغرب؟ أم إن تأسيسها كان بهدف تحرير الصحراء من طرف المحتل الإسباني؟.

هذا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن اسم البوليساريو انتقاء للحروف الأولى لعبارة إسبانية تعني: “الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب”.

مؤشرات عديدة تؤكد أن تنظيم البوليساريو وفق الملابسات التاريخية كان عبارة عن “حركة تحرر وطنية” وليس تنظيما انفصاليا كما يروج له من طرف معتنقي أطروحة الانفصال، على الأقل في ما يتعلق بالمحطات التأسيسية الأولى.

وارتباطا بهذا الجانب يجب التمييز بين غايات التأسيس الأولى لهذا التنظيم والتحول الذي وقع في ما بعد، ما دفع بهذا التنظيم إلى أن أصبح تنظيما انفصاليا ومعاديا للوطن الأم. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى ثلاثة مؤشرات ودلائل تؤكد أن حركة البوليساريو تأسست وفق غايات تحررية ولم تكن انفصالية.

إن الجيل المؤسس لجبهة البوليساريو كله درس في العاصمة المغربية الرباط (الوالي مصطفى السيد، محمد عبد العزيز، محمد بيد الله، البشير الدخيل، المحجوب السالك، عبد القادر طالب عمر، إبراهيم غالي، المحفوظ علي بيبا…)، وعائلاتهم وآباؤهم عملوا في وظائف الجيش والقوات المساعدة وباقي الوظائف المدنية.

الاتصالات التي أجراها قادة تنظيم البوليساريو بأعضاء جيش التحرير من أجل الحصول على الدعم والأسلحة، بحيث كان هدفهم هو الانخراط في تحرير الصحراء من المحتل الإسباني.

3- الأدبيات والشعارات التأسيسية لهذا التنظيم كانت ترتكز على مبادئ التحرر وطرد الإسبان. ولا يوجد ضمن الوثائق التاريخية ما يؤكد طرح أو خيار الانفصال.

ثالثا: اتفاقية مدريد

إن توقيع الاتفاقية الثلاثية (اتفاقية مدريد سنة 1975) بين المغرب وإسبانيا وموريتانيا جاء نتيجة مسار تفاوضي لم يكن سهلا، إذ حاول المغرب استثمار الزخم والضغط اللذين خلفتهما المسيرة الخضراء من أجل طرد إسبانيا من الصحراء.

وتبعا لمخرجات اتفاقية مدريد تم تقسيم الصحراء، بين المغرب الذي ضم الساقية الحمراء، مقابل احتفاظ موريتانيا بوادي الذهب.

إلا أن تنازل موريتانيا عن منطقة وادي الذهب لصالح جبهة البوليساريو تحت ضغط هاته الأخيرة المدعومة آنذاك بالعتاد والسلاح من طرف الجزائر دفعت بالمرحوم الحسن الثاني إلى إصدار أوامره إلى الجيش الملكي قصد إعادة الانتشار واسترجاع إقليم وادي الذهب سنة 1979 بعد معركة شرسة ضد الجيش الجزائري الذي قاتل خلف مليشيات البوليساريو.

دعاة الانفصال يوظفون خطابا دعائيا يحاول النفخ في بعض “الثقوب” واللعب على التناقضات، إذ يشككون في سيادة المغرب على صحرائه انطلاقا من مضمون الاتفاق الثلاثي، بدعوى أنه كيف ولماذا سمح أو تنازل المغرب عن وادي الذهب لموريتانيا إذا كانت الصحراء مغربية بحسب زعمهم.

إن الجرأة في طرح وتفكيك هذه المعطيات والأحداث التاريخية يعتبر مدخلا أساسيا لهدم الثقوب وملء المناطق الرمادية التي تستغلها الأطراف الأخرى لإضعاف موقف المغرب ومحاولة النفخ في بعض الأحداث، والنيل من سيادته من خلال تسليط الأضواء على هكذا وقائع.

إن توقيع الاتفاقية الثلاثية ورغم ما يعتريه من ملاحظات ومآخذ فالسياقات والضغوطات لم تكن لتسعف في البحث عن خيارات أفضل من التي كانت متاحة لاسترجاع الصحراء أو على الأقل لتهيئة الأجواء لذلك عبر التخلص من إسبانيا في البداية، وقلب معادلات الصراع في المنطقة في المحطات الموالية.

إن القبول بموريتانيا والتنازل لصالحها في الاتفاق الثلاثي ربما قد يكون تكتيكا لا بديل عنه، كان الغرض منه قطع الطريق على جزائر الهواري بومدين، وفي الوقت نفسه إخراج إسبانيا، إذ بعد الاتفاق كان من الممكن فتح مسار تفاوضي جديد مع موريتانيا لمعالجة كافة الإشكالات، خاصة أن المغرب لم يعترف باستقلالها إلا سنة 1969، بمعنى أن الامتداد الجغرافي والثقافي للجار الغربي كان حاضرا في ذهنية المقرر المغربي في عملية التفاوض والتنازل، لاسيما أنه كان ينظر في تلك الفترة، خاصة السبعينيات، إلى موريتانيا على أنها امتداد جغرافي للوطن الأم المغرب، لكن عوامل إقليمية ودولية وداخلية لربما لعبت دورا في تفكك وتمزق المغرب الكبير.

*مدير مجلة المغرب الكبير للدراسات الجيوسياسية والدستورية

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق العروسي تطرح أغنية "نوارة حياتي"
التالى الجامعة العربية تتابع بقلق بالغ التطورات الميدانية في سوريا