أخبار عاجلة
الواحدي: اختياري "الأسود" محسوم -

"المهرطق" .. تمرين سينمائي يتيح زعزعة البراءة الأيديولوجية للدعاة

"المهرطق" .. تمرين سينمائي يتيح زعزعة البراءة الأيديولوجية للدعاة
"المهرطق" .. تمرين سينمائي يتيح زعزعة البراءة الأيديولوجية للدعاة

يصمد السرد الديني في المشهد السينمائي المعاصر. كمثال صدر في نونبر 2024 فيلم “المهرطق” Heretic (للمخرجين سكوت بيك وبرايان وودر) عن داعية شابة فتح الرب عليها بالإيمان فقررت أن تغامر وتحث الغافلين على اتباع طريقها بحماس. فيلم فيه شخصيات قليلة تشتبك في حوارات كثيرة بجمل قصيرة في فضاء قوطي مغلق مؤثث برموز دينية تستدعي العالم الخارجي.

هناك تلتقي الداعية بالغافل في خلوة غير شرعية، تدعوه إلى اتباع طريق الإيمان والصلاح والفلاح فيطرح عليها بعض الأسئلة التي ورطتها في حوار لاهوتي لم يُدرّبها معلموها عليه.

يكشف لها الغافل كيف يفترض كل داعية أنه يسوّق أطروحة متماسكة حقيقية ستسحق كل الأطروحات المضادة المزيفة؛ تسعدها هذه المقدمة فيسألها عن الحدود الفاصلة بين الدعوة وغسل الدماغ.

يُعلمها الغافل – الذي كشف مخالبه الفكرية – أنه لا يمكن لمن يدعو الناس أن يتجاهل أحكامهم المسبقة ضده، يبدو له ذلك غامضا فيذكر لها أن راعي كنيستها متعدد الزوجات.

بعد الصدمة يسألها كيف لداعية تمجد زعيم كنيسة أباح لنفسه تعدد الزوجات، وهذا ما يحرج الداعية النسوانية… التي تطمس معلومات تغفل عنها البراءة.

لماذا تغفلُ؟

لأن التفاصيل والوقائع مضرة بفعالية الخطاب الدعوي التبسيطي. لا يوجد داعية يتحدث عن زوجات وجواري زعيمه الديني.

هنا ضبط المهرطق المتمكن الداعية الغافلة متلبسة بالتناقض. ما الموقف من التعدد في العالم المعاصر؟ مرفوض، فكيف يمكن لمناضلة نسوية أن تقوم بالدعوة إلى اتباع كاهن متزوج بعدة نساء؟.

تفسير: يزعم المهرطق أن الديانة هي السيطرة على البشر، يسخر من الكنيسة التي كانت توزع كتاب الله (الإنجيل) على ضحايا الإعصار في هايتي.

خرب التشكيك البراءة العقدية، لذا عملت محاكم التفتيش سابقا على تنقية المجتمع من الهراطقة، لكنهم كثروا في زمن الحداثة الشكاكة حتى في نفسها… في هذا السياق الجديد وقعت الداعية بين يدي مثقف مسلح بأدبيات الهرطقة… وهذا ما يفسر “الأفيش” الذي جعلها تحت أصابع الخصم بينما تبدو هي كدمية.

أخضع المهرطق الداعية الشابة لاختبار عقدي تجريبي… واجتازت بضع عتبات لتكتشف الأعداء والأصدقاء، وهو ما قادها للوقوع في الكهف والمتاهة المتفرعة عنه. كان المكان الاستعارة لمتاهة جدل الكفر والإيمان.

حصل تطور: هذا مهرطق متنور وليس غافلا يستخدم عجما دينيا ويسكن بيتا قوطيا… لم يغير الإنكار والنفي معجمه ولا فضاءه الذي يشبه دهاليز العقائد والفرق الدينية.

رجل وامرأة في فضاء مغلق. جرى تصوير معظم الفيلم داخل فضاء مغلق يشبه كهفا. يغلق الدوغمائي على نفسه منزلا بدون نوافذ… لا يتحمل المسارات المفتوحة وهو يُذكّر بأصول أسطورة الشهيد – ابن العذراء الإغريقية – الذي ضحى بنفسه لينقذ البشر… ويربط هذا بشخصية أفلام ستار وارز جار جار (Jar JarBinks) التي تعيش في كهف بحري… هذه استعارة لوحدة الاتجاه واستحالة العودة إلى الوراء… إنها الأسطورة وحيدة الاتجاه بلغة جوزيف كابل (البطل بألف وجه) كنفق في جوف كهف.

للإشارة يتبع السيناريو الخطوات الاثنتي عشرة من كتاب فوغلر كريستوفر “دليل السيناريست” ترجمة زياد خاشوق سلسلة الفن السابع 229 منشورات وزارة الثقافة دمشق 2012.

في ذلك الكهف الواقع وسط الولايات المتحدة، سواء كان استعارة دينية أو كان مكانا في بطن جبل، تتعرض الشابة الداعية لكل الاختبارات لتجد مفتاح المغارة، حينها تنقلب المتاهة، ينقلب اتجاه السهم ضد المهرطق السفسطائي. صار الصراع جسديا لأنه لم يتم حل الخلاف العقدي كلاميا.

وماذا لو كان المهرطق أدرى بالدين من الداعية؟

سينقلب اتجاه السهم. يقود الجدل إلى مستنقعات الهرطقة.

يحتاج المتفرج إلى معرفة عميقة بالأديان المقارِنة لفهم الحوار المتوتر. حوار مزلزل يلعب على الجناس بين الأديان التوحيدية ولعبة أحادية (Monothéisme – Monopoly). تمت استعارة الألعاب لمقارنة الديانات التي تتشابه في منطقها.

يلعب المهرطق على الملتبس والمتشابه لنفي تميز الطوائف وإثبات تناسخ الحكايات والأرواح وتناسخ الديانات… ساخرا يطالب الطوائف الدينية اللاحقة بدفع حقوق المؤلف للعهد القديم الذي يتبعه 0،2 في المائة من البشر. يلاحظ المهرطق:

– النسخ أكثر نجاحا من الأصل.

هذا هزل خطير عقديا.

ماهي الديانة الصحيحة؟ هي ديانتنا. من يستطيع أن يعتقد أن هناك ثلاث ديانات صحيحة؟.

الإيمان مطلق ولا يقبل النسبية العقدية.

هذه مقارنات خطرة. تحتفي الإنسانية بالتشابهات بينما تتغنى العقائد بالتفرد لفصل المؤمن والكافر والأسوأ: المهرطق.

المهرطق مرتد منقض، المهرطق ليس كافرا، لو كان كذلك لسهل التعامل معه؛ إنه على الديانة نفسها ويزعزع العقيدة من الداخل. كان تفسير التثليث وشرعية التصوير هما سبب الهرطقة المسيحية. إسلاميا يتسامح السّني المغربي مع المسيحي واليهودي أكثر من تسامحه مع المؤمن (المهرطق الزنديق؟) الشيعي… ما يجري في سوريا الآن مبهج للقنوات التلفزيونية للسنة.

لقد وقعت الداعية الغافلة المتحمسة صدفة في يد متخصص في الأديان المقارنة، مطلع على تشابهات الغصن الذهبي (لوحة وليام تورنر “الغصن الذهبي” وكتاب جيمس جورج فرايزر) الذي يرجع الأغصان والعقائد والطوائف إلى جذع إنساني واحد… تشابهات تنسف اعتقاد كل متدين بتفرد ديانته. لن يقبل الذين اشتروا الإنجيل من دونالد ترامب خلال الانتخابات هذا الطرح. غالبا ما يتم تصوير الآخر المخالف لنا في حكايتنا عنه كنسخة مشوهة منا.

يجادل المهرطق ببهجة بابتسامة ساخرة: لم يعد الدين في مركز الثقافة.

المهرطق – المسلح بأدبيات الهرطقة – أشد خطورة لأنه يزرع الشك من داخل الديانة؛ يزعم إعادة المعجزة في مختبر كما تفعل العلوم الطبيعية بإعادة تشريح الضفدع، يستخدم الغار والكهف كمختبر بشري بافلوفي (Ivan Pavlov) لإنجاز تجربة علمية لإعادة إنتاج تجربة شكلت نقطة انطلاق المسيحية.

تخاف الداعية من خطر التجريب على الإيمان القلبي.

هذا فيلم أطروحة عماده الحوار. تعوّض المجادلات الطويلة ضعف اللغة السينمائية. قال غابرييل غارسيا ماركيز: “حين يكثر الحوار في فيلم ما فما لدى المخرج هو فكرة وليس قصة”.

قد يكون هذا ضعفا فنيا للفكرة، لكنها فكرة متجذرة تجذر الأديان في حياة البشر.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بينهم محمد صلاح.. الأهداف المرشحة لجائزة الأفضل في ليفربول بشهر ديسمبر
التالى اسعار العملات أمام الجنيه المصري في تعاملات اليوم الجمعة 3-1-2025