بين الفينة والأخرى يُثار سؤال الهُويّة الأصليّة في مجتمعنا المغربيّ، وتتعالى أصوات تعبر عن هُويتها الأمازيغيّة، وأصوات أخرى تعبر عن هُويتها العربيّة. وهذا النقاش الهُوَوِي، في اعتقادي، لا جدوى منه، ما دمنا ننتمي لدولة نحمل جنسيتها، أعني المملكة المغربيّة.
فالجنسيّة المغربيّة باعتبارها وثيقة تثبت عضويتنا في نظام قانوني وهو الدّولة المغربيّة، تجعلنا في غنى عن هذه النقاشات، وما دام الدّستور المغربيّ رسم الخطوط العريضة للهُوية المغربيّة في تصديره؛ فإن أي نقاش حول الهُوية المغربيّة ينبغي ألا يتجاوز بُعده الدّستوري.
وفي نظري، أن النقاش الذي نسمعه هنا وهناك حول الهُوية يشبه إلى حد كبير النقاش حول الطبقات الاجتماعيّة، والقبيلة، والنسب… إلخ؛ أقصد أنه نقاش عاطفي، غير عقلاني، أكثر مما هو نقاش واقعي. فالشخص الذي يرى نفسه أمازيغياً، ويرفض بشتى الطرق الثقافة العربيّة، يجهل أنه، ومن منطلق واقعي وقانوني بحت، أن البلد الذي يحمل جنسيته، وهي المملكة المغربية، عضو في جامعة الدول العربيّة، فضلاً عن كون هويته الوطنيّة، حسب الدّستور، موحدة بانصهار كل مكوناتها العربية – الإسلاميّة، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية. ثم إن البلد الذي يحمل جنسيته تلتزم، حسب الوثيقة الدستورية أيضاً، بتعميق أواصر الانتماء إلى الأمّة العربيّة والإسلاميّة، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها؛ وبالتالي فإن أي شخص مغربي، حتى وإن كان يرى نفسه أمازيغياً، ولا يتقن اللغة العربيّة، فإنه ينتمي للأمّة العربيّة من هذا المنطلق الذي عبّرنا عنه.
وبالمقابل، فإن البُعد الأمازيغي حاضر في الهُوية المغربيّة، ووفق التصور الدستوري. وترتيباً على ذلك؛ فإن أي شخص مغربي، حتى ولو لم يكن يتحدث بالأمازيغيّة، بل ويرى نفسه عربياً لا أمازيغياً، فإنه ملزم بالتشبث بالثقافة الأمازيغيّة، لأنها ببساطة جزء لا يتجزأ من هُويته، ومن هُوية الدولة التي يحمل جنسيتها.
تبدو المسألة من هذه المنطلقات بديهية جداً؛ فالروابط القانونيّة والتعاقديّة التي يسري مفعولها ينبغي أن تُحترم من الجميع، وذلك تحت إشراف السلطة أو الدّولة؛ فهكذا يتأسس العقد الاجتماعي الذي من خلاله يتحقق السلم العمومي. فإذاً تبقى الهُوية الأصلية للمغاربة هي الهُوية المدونة في الدّستور المغربي، أي تلك الهُوية التي تنصهر فيها المكونات العربيّة والإسلاميّة والأمازيغيّة والصحراوية الحسانية، بجميع روافدها الإفريقيّة والأندلسيّة والعبريّة والمتوسطيّة. وهذه الهُوية تختزل في الجنسيّة، التي كما سبق أن ذكرنا، بأنها وثيقة تثبت الانتماء للدولة المغربيّة، ثم إنها تؤكد صفتنا كمغاربة.
وهنا أود أن أطرح الفكرة التي أريد تأكيدها في هذا المقال وهي أن كوننا عرباً أو أمازيغ، لا يعني شيئاً بالنسبة للآخر/ الأجنبي الذي يرانا كمغاربة لا أكثر. فقد ندّعي أننا أمازيغ أو عرب، بل أكثر من ذلك قد نفتخر بوضعنا العائلي أو منصبنا الوظيفي… إلخ، لكن في جميع الأحوال نحن بالنسبة لجيراننا الإسبان مجرد “مورو” Moro – بما تحمله هذه الكلمة المتداولة في إسبانيا عن المغاربة من حمولة تاريخيّة وقيميّة كما سنرى – كذلك الأمر بالنسبة للجزائريين أو المشارقة نحن مجرد مغاربة.
وبكل تأكيد أن هذا الآخر/ الأجنبي الذي يحمل جنسية دولة أخرى، يملك تصورًا مخياليًا عن المغاربة، مثلما نحمل نحن تصورات عن الإنسان الفرنسي أو الأمريكي أو الخليجي… إلخ؛ فما هي هذه التصورات التي يحملها الآخر عنا بصفتنا مغاربة؟
هذا السؤال، على بساطته، هو ما ينبغي أن نفكر فيه جميعاً وأن نناقشه بجدية، لأن أي تصور مغلوط عن الإنسان المغربي يسيء لنا كمجموعة بشرية تحمل قيماً حضارية، سواء كنا نفتخر بأصولنا العربيّة أو الأمازيغية أو الصحراوية. وبطبيعة الحال، التّصورات المغلوطة عن الإنسان المغربي كثيرة، ويمكن أن نضرب مثالاً بتصورات بعض الإسبان عن المغاربة.
فالإسبان، وكما قدمت، يسمون المغربي بالمورو، والمورو في المعجم الإسباني هي صفة تطلق على الشخص الذي ينتمي لشمال إفريقيا، أو الذي يتبع تعاليم النبي محمد، أو العربي الذي عاش في إسبانيا من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر، أي إلى تاريخ سقوط الأندلس. كلّ هذه المعاني، وكما يظهر، لا تحمل أي قيمة سلبية، بيد أنه في الثقافة الشعبيّة الإسبانيّة، فإن كلمة المورو تطلق على المغاربة بشكل خاص، كما أن دلالتها دائماً ما تكون سلبية. وحتى نعرف أي قيمة يمثلها المغربي في الثقافة الإسبانيّة، فإنه يكفي أن نضع على منصة إكس أو أي وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي كلمة “مورو”، حتى يظهر لنا في أي سياق يتم تداول هذه الكلمة.
إن السياق الذي تتداول فيه كلمة “مورو” غالباً ما يكون مرتبطاً بالهجرة، أو العنف، أو السرقة، أو الخداع، أو الفوضى إلخ. وهناك مثال إسباني يقول: “مثل المورو بلا سيّد”، ويُضرب في حالات الفوضى التي تحدث في الاجتماعات، أي في حالة الهرج والمرج. صحيح أن هذه الحمولة الثقافيّة التي يحملها الإسبان عن المغاربة مرتبطة ببعدها التّاريخي، سواء في فترة الحكم الإسلامي/ المغربي للأندلس، أو في الفترة المعاصرة عندما استعان الجنرال فرانكو بجنود مغاربة أثناء الحرب الأهليّة الإسبانيّة، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن مشكلة الهجرة واختلاف الثقافة ساهم في تأكيد هذه الصور النمطية عن الإنسان المغربي.
على سبيل الختام؛ كيف يمكننا أن نغير الصورة النمطيّة عن الإنسان المغربي؟ لقد سبق أن كتب عبد الله كنون كتاباً بعنوان “النبوغ المغربي”؛ يشير فيه إلى جانب من العبقريّة المغربية في الأدب. وكما في الأدب، فإن النبوغ المغربي يظهر في شتى الميادين: في العمارة، وفي الفنّ… إلخ. غير أن الواقع الراهن يدفعنا للتحسر على الشخصية المغربيّة، التي فقدت قيمها وفخرها واعتزازها بنفسها. هذا الفخر الذي كان يدفع الكثيرين في الماضي لرفض جنسية دول يقيمون فيها كمهاجرين، بل لم تكن هجرتهم إلا اضطراراً، مما كان يدفعهم لوصية أبنائهم بضرورة دفنهم في بلدهم عند الموت.
إن تحسين صورة الإنسان المغربي عبء نتحمله جميعاً، ولا بد من التأكيد أن الصور النمطيّة عن المغربي، سواءٌ في إسبانيا أو في المشرق العربي، لم تنشأ من فراغ، بل إن بعض الوقائع تؤكدها وإن كانت استثناءات. وهذه الصورة تتعزز بسبب البؤس الذي يخلق الأوهام، أوهام الهجرة، أو أوهام أخرى أكثر خطورة. كذلك بسبب تسويق نماذج معينة من الفولكلور من طرف المشتغلين في السياحة، بحيث ساهم تسويق البهلوانيات في تعزيز تلك الصور النمطيّة عن المغاربة وفنهم وثقافتهم، على أساس تأكيد تلك النظرة العجائبيّة للشرق، رغم أننا مغاربة ولسنا مشارقة.
إن وطننا جميل بمناخه وجغرافيته ونبل إنسانه وثقافته، لكن نخبته في أزمة حقيقية. وغنيٌ عن البيان أن النخبة ليست هي فئة المجتمع التي تملك الثروة والثقافة فحسب، بل هي الفئة القادرة على تمثل الوجه الحضاري للأوطان. ونخبتنا اليوم تُسائلها كلّ المظاهر التي تسيء لصورة الإنسان المغربي، لأنها في النهاية تسيء إليها أيضاً.
هوامش
يكتب عبد الله العروي: “أمشي في شوارع الحمراء تحت أشعة الشمس المحرقة وأقول: أحسن وسيلة للتعرف إلى واقع الوطن هو أن تراه بعين السواح، رابط الجأش إن أمكن. لماذا يفضلون هذه المدينة على سائر حواضر المغرب؟ ألبهجتها وجمالها أم لغرابتها وانحطاطها؟” (انظر: عبد الله العروي، خواطر الصباح، يوميات، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، ص: 191). ويقول في الأيديولوجيا العربية المعاصرة إن سياح العالم كانوا يعتبرون مدينة مراكش في عهد الحماية بمثابة متحف مفتوح، إلا أنها كانت بالنسبة للوطنيين الشبان موضع اشمئزاز، بسبب مظاهر التخلف والانحطاط، وأنه ما إن أزفت ساعة الاستقلال حتى بادرت الحكومة إلى منع البهلوانيات التي كانت تقام كلّ مساء في ساحة جامع الفنا، ثم بعد سنوات عادت الحكومة فألغت المنع لكون السياحة الأجنبية لا تنتعش إلا بتلك البهلوانيات. وفي رأي عبد الله العروي أن هذا الفولكلور المسترجع لا يمثل ثقافة أصيلة، بل هو جزء لا يتجزأ من ثقافة دخيلة. (انظر: عبد الله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، ص: 209-210).