تميّز ثاني أيام المؤتمر السنوي لمركز السياسات من أجل الجنوب الجديد “الحوارات الأطلسية” بنقاشات مفتوحة ومستفيضة حول أحوال الديمقراطية ومخاطر صعود الشعبوية في العالم، ودول المحيط الأطلسي بالأخصّ، خلال سنة انتخابية بامتياز بصمتْها عودة الجمهوري دونالد ترامب إلى رئاسة بلاد “العم سام”، الذي يرتقب أن يباشر مهامه في يناير 2025.
الجلسة العامة الخامسة من المؤتمر التأمت، مساء الجمعة، تحت موضوع “الديمقراطية على الحافة.. عام الانتخابات في منطقة المحيط الأطلسي الأوسع” [Democracy on the Edge: Election Year in the Wider Atlantic]، متوخية بذلك الإجابة عن أسئلة “حارقة” تتمحور أساسا حول “العوامل الرئيسية المساهمة في صعود الشعبوية في دول المحيط الأطلسي خلال الانتخابات، وكيف تؤثر على سلوك الناخبين والنتائج”، و”الطرق التي أثّر بها انتشار المعلومات المضللة على التصور العام للعمليات الديمقراطية والثقة في المؤسسات الانتخابية في منطقة ‘الأطلسي الأوسع”.
“التأثير والديمقراطية الرقمية”
البدء كان بتأكيد رئيس وزراء غينيا السابق، محمد بيافوغي، أن “مجتمع المؤثرين يلعبون دوراً مهمًا في تشكيل الرأي العام”، مبرزا أن “المؤثرين الرقميين، في عالم متصّل باستمرار، يوفرون رابطًا اتصالياً بديلًا لفئات واسعة من الذين يكافحون من أجل التعرف على الأحزاب السياسية وبرامجها”.
وقال متوسعاً في هذه الفكرة، خلال إجابته عن أسئلة مسيّر الجلسة، إن “الفئات المجتمعية، خصوصا الشباب، التي تتابع المؤثرين (الرقميين) على مواقع التواصل الاجتماعي تفوق عددياً أولئك الذين قرروا الانخراط في نشاط حزب سياسي معين أو التعرف عليه واقعيا”.
ووفق المسؤول السياسي الغيني، فـ”أنظمة وقواعد الحكم الثقافية التقليدية تقوّي مبادئ الديمقراطية من خلال إبقاء الشعب في المركز، وتجسيد جوهر الديمقراطية التي تعطي الأولوية لمصالح الشعب وحُكمه وكلمته”.
وعلى المنوال نفسه نسَج وزير الخارجية البرتغالي السابق، باولو بورتاس، مسجلا أن “الديمقراطية الرقمية والخوارزميات غيَّرت طبيعة السياسة، ممارسة وتصوراً”. وأبرز أن “هذا التحول يشكل تحديًا للغرب الذي يشهد تراجعا مقارنة بالشرق الذي يشهد صعودًا”.
وخلص بورتاس إلى أن “ما أحدث تحولاً جذرياً في السياسة هو الديمقراطية الرقمية، التي يبدو أنها حلت محلّ الديمقراطية التمثيلية أو في طريقها للتفوّق عليها”.
التنشئة الاجتماعية حاسمة
من جهتها انطلقت مداخلة نجاة فالو بلقاسم، وزيرة سابقة وسياسية فرنسية من أصل مغربي، بالتساؤل عما إنْ كانت “الديمقراطية على حافة الهاوية أو الانهيار”، ضاربة أمثلة من فرنسا، التي قالت إن “ربُع الفرنسيين لا يعتبرون أن الديمقراطية هي أحسن/أفضل نظام.. والأمر نفسه ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية، وقد يكون الأمر أكثر هناك من حيث تصورات الناس”.
“هذا التوجه نحو تبنّي مواقف تعاكس الديمقراطية كمنظومة للحكم أكثرُ بروزاً بين الجيل الجديد”، تقول بلقاسم، مشيرة إلى أن “30 بالمائة من الشباب يعتقدون أن هناك حلولا بديلة، شمولية أوتوقراطية، يمكنها تعويض الديمقراطية”، قبل أن تتساءل عمّا “أوْصل الديمقراطية إلى هذا الحال”.
وبالنسبة للمتحدثة، التي شاركت في المؤتمر بصفتها رئيسة منظمة “فرنسا أرض اللجوء”، “لم تعُد هناك حقيقة نستمع إليها، بل حقائق نسبية وحقائق بديلة”، مشددة في السياق ذاته على “حتمية العيش في التوافق وعالم متوازن موحَّد الرؤية تجاه الديمقراطية”.
وأكدت بلقاسم، التي تقلدت سابقا حقيبة وزارة التربية والتعليم بفرنسا، أن “المدرسة هي المكان الأمثل لمعالجة آفات المجتمع”، قبل أن تثير الانتباه إلى “ثلاث مشاكل رئيسية تُضعف هذه المؤسسة”.
وتابعت قائلة: “تؤدي التنافسية، رداً على الضعف الملحوظ لأداء المدارس، إلى التركيز على الدرجات والتقييمات وحدها، على حساب المواطنة والتفكير النقدي والتعلم الجماعي بين الأطفال”، داعية إلى “استعادة المدارس لدورها كمجتمع تعليمي، مع إتاحة الوقت اللازم لإنجاز هذه المهمة”.
وأضافت “يؤدي عدم الاختلاط في التعليم، سواء كان خاصّاً أو عموميا، إلى حرمان التلاميذ من فرصة تعلم العيش المشترك وتجربة التواصل بين الثقافات والسياقات المختلفة”، لافتة إلى أن “التدخلات الخارجية، مثل التحديات التي تواجه تدريس المساواة بين الأطفال الذكور والإناث، تمنع المدارس من تحقيق رسالتها المتمثلة في تعليم المتمدرسين والتلاميذ من أجل الحياة معًا، خاصة في مواجهة الأصوات المحافظة التي تعارض انفتاح الطلاب على الإشكاليات الاجتماعية”.
وحضرت خلال الجلسة النقاشية ذاتها حول “الديمقراطية في الأطلسي الأوسع” إشارة إلى تأثير القضايا العرقية والهوياتية، بما يشمل معاداة قضايا العرق والمثلية الجنسية، في تشكيل صورة المشهد الانتخابي، خصوصا في بعض دول أوروبا وأمريكا؛ وهو ما أثارته كاسي فريمان الرئيسة التنفيذية لـ”اتحاد الشتات الإفريقي” بالولايات المتحدة، خلال حديثها.
ولم يخلُ نقاش المتحدثين الأربعة إجمالا، وفق ما تابعته هسبريس، من التطرق إلى “كيفية عمل منظمات المجتمع المدني والحركات الشعبية أن تلعب دورًا في مكافحة لامبالاة الناخبين وتعزيز المشاركة المدنية في سياق بيئات سياسية متزايدة الاستقطاب”، محاولين الإجابة عن سؤال “الاستراتيجيات التي يمكن للهيئات الدولية والإقليمية تنفيذها لدعم نزاهة الانتخابات وتعزيز المعايير الديمقراطية في المنطقة الأطلسية”.
" frameborder="0">