في عمق الصحراء الشرقية المغربية حيث تمتد الرمال الذهبية إلى ما وراء الأفق، تكمن قصة منطقة ظلت لقرون جزءا لا يتجزأ من المغرب الكبير، قبل أن يرسم الاستعمار الفرنسي حدودا جديدة تفصل ما كان متصلا؛ إنها قصة الصحراء الشرقية المغربية التي تضم مناطق توات وتيديكلت وقورارة، التي تشهد الوثائق التاريخية على مغربيتها.
تؤكد السجلات التاريخية أن هذه المناطق كانت تدين بالولاء للسلاطين المغاربة، إذ كان سكانها يقدمون البيعة ويدفعون الضرائب للمخزن المغربي، وقد وثق المؤرخ الفرنسي أوجست مولييراس هذه الحقائق في كتاباته، مشيرا إلى أن السلطة المركزية المغربية كانت تعين القضاة والعمال في هذه المناطق.
شكلت معاهدة لالة مغنية سنة 1845 منعطفا تاريخيا في مصير الصحراء الشرقية المغربية، إذ بدأت فرنسا في تنفيذ مخططها لاقتطاع هذه الأراضي من النفوذ المغربي، وتعززت هذه السياسة الاستعمارية باتفاقية 1901-1902، التي مهدت الطريق لضم هذه المناطق إلى الجزائر المستعمرة.
وكشف عدد من المهتمين بملف الصحراء الشرقية المغربية أن المراسلات القنصلية الأجنبية وكتابات الرحالة الأوروبيين تشهد على الوجود المغربي القوي في هذه المناطق قبل الحقبة الاستعمارية، مؤكدين أن وثائق المخزن المغربي تبرز تداول العملة المغربية في أسواق المنطقة وارتباطها الاقتصادي والاجتماعي الوثيق بالمغرب.
لحسن بنهرو، من ساكنة الصحراء الشرقية، إقليم فجيج بالتحديد، أحد أهم الباحثين والمهتمين بهذا الملف، قال إن استمرار سيطرة الجزائر على هذه المناطق المغربية تاريخيا يشكل أحد أبرز نقاط الخلاف في العلاقات المغربية الجزائرية، مبرزا أن هذا الملف يمثل امتدادا طبيعيا لقضية الصحراء المغربية حيث يواجه المغرب تحديات مماثلة في استرجاع أراضيه التاريخية.
في ظل المتغيرات الجيو-سياسية الراهنة، يبقى ملف الصحراء الشرقية المغربية حاضرا في الوعي الجماعي المغربي، مدعوما بأدلة تاريخية دامغة تؤكد مغربية هذه المناطق، يقول موحى أوعسين، من منطقة سيدي علي بإقليم الرشيدية، مضيفا أن السؤال يظل مطروحا حول إمكانية إعادة النظر في الحدود الموروثة عن الاستعمار، في إطار حوار إقليمي بنّاء يراعي الحقائق التاريخية والحقوق المشروعة للشعوب.
وشدد أوعيسين، في تصريح لهسبريس، على أن “حل هذا الملف يتطلب إرادة سياسية حقيقية من الطرفين المغربي والجزائري، وانفتاحا على الحوار المباشر بعيدا عن المواقف المتشنجة”، مؤكدا ضرورة الاعتماد على الوثائق التاريخية والمعاهدات الدولية كمرجعية أساسية في معالجة هذا الملف الحساس.
وكشف الخبير في العلاقات الدولية المتخصص في ملف الصحراء، أحمد نور الدين، عن معطيات تاريخية وقانونية تؤكد سيادة المغرب على الصحراء الشرقية، مشيرا إلى أن الصحراء الشرقية تمتد على مساحة تقدر بحوالي 1.5 مليون كيلومتر مربع، وهي مساحة تفوق مساحة المغرب الحالية بمرتين تقريبا، وتشمل هذه المنطقة أقاليم تمتد من بشار وتندوف وكرزاز إلى أدرار وعين صالح.
وتحدث الخبير في العلاقات الدولية، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، عن وجود آلاف الوثائق التي تثبت السيادة المغربية على هذه المناطق من الصحراء الشرقية للمغرب، منها وثائق رسمية محفوظة في الخزانة الملكية بالرباط تتضمن تعيينات للعمال والقضاة، ومراسلات السلطان مع ممثليه، وسجلات الضرائب، ووجود وثائق خاصة كذلك تتعلق بالعقود الزواج والإرث والأحكام القضائية الصادرة باسم سلطان المغرب.
وتطرق أحمد نور الدين إلى التغيرات الحدودية التي طرأت في القرن 19، موضحا أن فرنسا استغلت ضعف المغرب لتوسيع رقعة الجزائر الفرنسية، مشيرا إلى أن مساحة الجزائر الفرنسية زادت من 500 ألف كيلومتر مربع في عام 1905 إلى 2.3 مليون كيلومتر مربع عند الاستقلال.
وذكر المتخصص في ملف الصحراء أن معاهدة لالة مغنية عام 1845، التي وقعت بعد هزيمة الجيش المغربي في معركة إيسلي، تركت الجنوب المغربي دون تحديد، مما سمح لفرنسا بالتوسع لاحقا، وأن فرنسا واصلت اقتطاع الأراضي المغربية وضمها للجزائر الفرنسية بين عامي 1881 و1907.
وفي سياق حديثه عن الأدلة التاريخية، أشار المتحدث لهسبريس إلى كتاب “أربعة قرون من تاريخ المغرب في الصحراء الشرقية”، الذي ألفه ضابط فرنسي، معتبرا إياه وثيقة مهمة تؤكد الحضور المغربي في المنطقة، كما لفت الانتباه إلى الأرشيف الفرنسي الذي رفعت عنه السرية، والذي يوثق عملية اقتطاع الأراضي المغربية وضمها إلى الجزائر الفرنسية بين عامي 1881 و1907.
وفيما يتعلق بالوضع الحالي، استحضر نور الدين اتفاقية ترسيم الحدود لعام 1972 بين المغرب والجزائر، قائلا إنها تضمنت بنودا حول الاستغلال المشترك لمنجم الحديد في غار جبيلات قرب بشار، معتبرا أن عدم احترام الجزائر لهذه البنود يمكن أن يكون مدخلا قانونيا لإعادة النظر في الاتفاقية بأكملها.
وأكد المتخصص في ملف الصحراء أهمية مواصلة العمل الدبلوماسي والقانوني لاسترجاع الحقوق المغربية، وشدد على أن الحدود ليست ثابتة أو مقدسة، وأن التغيرات الجيو-سياسية ممكنة كما أثبتت ذلك التجارب التاريخية الحديثة في أوروبا وغيرها، وأن استرجاع الصحراء الشرقية، رغم صعوبته، يظل هدفا ممكنا، مستشهدا بأمثلة تاريخية حديثة كإعادة توحيد ألمانيا، داعيا إلى مواصلة العمل بحكمة من أجل استرجاع كامل التراب المغربي.